أ . المقدمة
كما أن للغة الإنسانية خصائص مشتركة تشترك فيها الألسنة على اختلافها وتنوعها فإن لكل لسان (لغة) خاص بكل أمة خصائص تنفرد بها وتتميز عن غيرها ، وربما تنفرد اللغة بهده الخصائص أو بواحدة منها وإنما تكون فيها أظهر من غيرها من دلك ما تمتاز به العربية (اللسان العربي) من خصائص ذكرها الباحثون وفصلوا فيها في مؤلفاتهم وأبحاثهم ومن أبرزها :الاعراب , الاشتقاق , الترادف , المشترك اللفظي , التضاد .
ب . البحث
1. تعريف الاعراب
ربما كان الإعراب من أبرز خصائص العربية ، ومعنى الإعراب في اللغة : البيان و الإفصاح أما في الاصطلاح فهو : إما الحالات الإعرابية التي تبين وظيفة الكلمة داخل التركيب (الرفع و النصب و الجر و الجزم ) أو هو علامات الإعراب نفسها (الضمة و الفتحة و الكسرة و السكون) وما ينوب عنها.وسيأتي تفصيل ذلك .
2. حكاية الإعراب
وجود الإعراب في الساميات :
إن النظر في اللغات السامية يؤكد أن الإعراب كان موجودا في هذه الفصيلة اللغوية (الفصيلة السامية) إلا أنه فقد من معظمها على العصور وقد بقيت منه بقايا في بعض فروعها .
يقول المستشرق برجستراسر " إن الإعراب السامي الأصل تشترك فيه اللغة الأكادية ، وفي بعضه اللغة الحبشية ونجد أثارا منه في غيرها " فالأكادية كالعربية تستخدم علامات الإعراب .
- فالمفرد يرفع بالضمة وينصب بالفتحة ويجر بالكسرة .
- والمثنى تقع في آخره ألف ونون في حالة الرفع وفي حالتي النصب
والجر، وينتهي في البابلية بياء ونون، و في الآشورية بحركة إمالة متطورة عن الياء المفتوح ما قبلها و النون ...
- وفي العبرية بقايا إعرابية تظهر في مواضع منها المفعول به، ويبدو أن علامة النصب في العبرية القديمة كانت (الفتحة الطويلة) التي نشأت عنها هاء متطرفة تذكر في أواخر الكلمات وتشبه الألف اللينة ، ويظهر ذلك واضحا في الاسم المنصوب بنزع الخافض وفي أواخر الظروف المنصوبة مثل "Laila " بمعنى " ليل"ATTA" بمعنى (حتى) وكذلك في المصدر الذي يناظر المفعول المطلق في العربية. إلا أنه وفق القواعد العبرية تأتي بعد (الفتحة الطويلة) ميم زائدة (ما يسمونه التمييم ويقابله التنوين في العربية) ونلمح آثارا في العبرية ترشد إلى أن الضمة والكسرة كانتا علامتين إعرابيتين فيها .
وجوده في العربية :
أما العربية فيكاد بجمع العلماء على أن الإعراب ظاهرة لغوية اتسمت بها من قديم الزمان ومنذ نشأتها .
ويقول المستشرق يوهان فك : " إن العربية الفصحى قد احتفظت في ظاهرة التصرف الإعرابي بسمة من أقدم السمات اللغوية التي فقدتها جميع اللغات السامية باستثناء البابلية القديمة قبل عصر نموها وازدهارها الأدبي " .
ويقول الدكتور السامرائي: " وقد احتفظت اللغة العربية الفصيحة بظاهرة الإعراب، وهي من صفات العربية الموغلة في القدم " .
وبعض الباحثين اللغويين كانوا يخضعون البحث اللغوي منذ زمن غير قصير للنظرية القائلة بأن اللغات تمر بحالات ثلاث على التتابع :
1) حالة العزل
2) حالة الإلصاق
3) حالة الإعراب ( التصرف )
وكان من المسلم به أن كل لغة من اللغات المعروفة كانت على إحدى هذه الحالات الثلاث وفقا لمرحلة التطور التي عرفناها فيها .
ونقل ابن جني رأيا عن أبي الحسن أجاز فيه أن تكون الكلمات المبنية قد كانت قديما معربة فلما كثرت تميزت وأجاز مع ذلك أنهم ابتدأوا بناءها لأنهم علموا أنه لابد من كثرة استعمالها .
والنظرة التطورية إلى اللغة لا تقبل بحال أن نعد ظاهرة الإعراب في العربية وجدت هكذا دفعة واحدة . فالطبيعي أن لإعراب لم يصل إلى هذه الدرجة الدقيقة المنظمة في العربية إلا على مراحل ودرجات ولابد أنه كان بسيطا كما هو الحال عند أخواتها .
ولعل كثيرا من الألفاظ التي تعربها العربية الآن كانت في وقت ما مبنية ثابتة أواخرها على حركة واحدة أو على سكون؛ أقصد أن الإعراب لم يكن مطردا على أواخر الألفاظ المعربة وعلى النحو الذي نراه الآن.
ويرى بعض الباحثين المحدثين كالدكتور إبراهيم أنيس أن الإعراب كان من خصائص اللغة النموذجية ، فظاهرة الإعراب لم تكن ظاهرة سليقة في متناول العرب جميعا، كما يقول النحاة ، بل كانت صفة من صفات اللغة النموذجية الأدبية ، ولم تكن من معالم الكلام العربي في أحاديث الناس وخطابهم .ويوافقه الأستاذ عبد المجيد عابدين بعض الموافقة حين يقول : " إن العربي كان إذا عاد إلى بيئته أو بيته عاد إلى لهجته الدارجة ؛ هذه اللهجات الدارجة لم تكن في أغلب الظن معربة إعراب لغة قريش ، وكان الإعراب في هذه اللهجات بسيطا ، وهي تذكرنا على كل حال باللهجات العربية الحديثة " .
وكان الدكتور أنيس قد ادعى أن النحاة العرب قد اخترعوا قواعد الإعراب على نظام النحو في اللغات الأخرى كاليونانية مثلا ففيها يفرق بين حالات الأسماء التي تسمى "Cases" ويرمز لها في نهاية الأسماء برموز معينة ، وكأنما قد عز على النحاة ألا يكون في العربية أيضا مثل هذه الـ "Cases " فحين وافقت الحركة ما استنبطوه من أصول إعرابية قالوا عنها : أنها حركة إعراب وفي غير ذلك سموها حركة أتى بها للتخلص من التقاء الساكنين . ومن هذا يتلخص أن الدكتور أنيس ومن تابعه يدعون أن الإعراب لم يكن في لهجات التخاطب عند العرب القدماء، وأن بعضه اخترع لطرد القواعد وانسجامها .
ومن الردود على هؤلاء وخاصة الذين يرون في ظاهرة اللهجات العامية اليوم دليلا على خلوالعربية أصلا من الإعراب :
1) ما ذكره الدكتور عبد الواحد وافي حيث قال : إن اللهجات العامية الحديثة خضعت لقوانين التطور في مفرداتها وأوزانها ودلالاتها ، فبعدت بعدا كبيرا عن أصلها فلا تقوم دليلا، وقد خضعت لقانون التطور الصوتي وهو ضعف الأصوات الأخيرة في الكلمة و انقراضها ، وهو قانون عام خضعت له جميع اللغات الإنسانية في تطورها. وفي اللهجات العامية الحديثة بقايا من الإعراب مثل: ( أبوك وأخوك ) في عامية مصر. وفي معظم لهجات العراق تثبت النون في الأفعال الخمسة مثل :يمشون – تمشون – تمشين .
2) روى بعض الباحثين أن آثار الإعراب بالحركات لا تزال باقية في لهجات بعض القبائل الحجازية في العصر الحاضر، ويستفاد ذلك من كثير من كتب التاريخ ، ففي كتب أبي الفدا أن العربية بقيت في بعض لهجات المحادثة حتى أواخر العصور الوسطى. نضيف إلى هذا أن الزبيدي في تاج العروس (مادة عكد) ذكر أن قرية قرب جبل عكادا كانت لا تزال فصيحة حتى عصره، وقد توفى الزبيدي سنة 1305 هـ.
3) صعوبة قواعد الإعراب لا تدل على اختراعها ، فاليونانية و اللاتينية مع صعوبة الإعراب فيهما كالعربية لا تزال تستعمل حتى الآن في المحادثة وخلق القواعد خلقا لا يتصوره العقل، إذ اللغة هي التي تفرض نفسها ، ولم يكن هناك صلة بين علماء النحو العربي و الإغريق حتى يقتبسوا منهم لأنهم لم يكونوا يعرفون اليونانية مع أن قواعد العربية تختلف اختلافا جوهريا عن اللغة اليونانية .
4) كان علماء البصرة والكوفة يأخذون في وضع القواعد من لغة المحادثة عند القبائل العربية متحرين الدقة في ذلك، وليس من المعقول أن يتواطأ جميع العلماء مع علماء النحو مع هذا الاختلاف و الاختراع
5) اكتشفت نقوش في شمال الحجاز تدل دلالة قاطعة على وجود الإعراب في العربية البائدة نفسها .
6) أوزان الشعر العربي تقوم على الموسيقى ولابد لها من الإعراب .
7) تواتر القرآن و السنة بالإعراب دليل قاطع على وصول الكلمات إلينا معربة، وكذلك رسم المصحف العثماني مع تجرده من الإعجام والشكل وذلك أن المصحف يرمز إلى كثير من علامات الإعراب بالحروف (المؤمنون، رسولا ، شهيدا....)
ولاشك أن المصحف العثماني قد دون في عصر سابق بأمد غير قصير لعهد علماء البصرة و الكوفة .
وقد أثبت المستشرق " يوهان فك " :" أن الإعراب من سمات العربية القديمة. فأشعار البادية من قبل العهد الإسلامي، ومن بعده ترينا علامة الإعراب مطردة كاملة السلطان . كما أن الحقيقة الثابتة أن النحويين اللغويين الإسلاميين كانوا حتى القرن الرابع الهجري و العاشر الميلادي على الأقل يختلفون إلى عرب البادية لدرس لغتهم تدل على أن التصرف الإعرابي كان بالغا أشده لذلك العهد، بل لا تزال حتى اليوم نجد في بعض البقايا الجامدة من لهجات العرب البداة ظواهر الإعراب، كما يستدل أيضا بالقرآن الكريم وإعرابه إذ أنه أقدم أثر من أثار النثر الأدبي ".
ودقة الإعراب وتنوعه ليست مانعا من التخاطب بلغة معربة، ولهذا نظائر في تاريخ اللغات الأوروبية كالألمانية التي لا تزال لغة تخاطب بين الألمان .
3. دخول الإعراب الكلام
كما هو معروف عند علماء اللغة إن اللغة العربية من خصائصها أنها معربة فهي تعتمد بالدرجة الأولى على الإعراب الذي يحدد الوظائف النحوية للمفردات ضمن التركيب .ومعنى الإعراب –أصلا– هو الإظهار والتوضيح فلو قال قائل: ( زار محمد سعيد ) بتسكين آخر الاسمين لا يستطيع المخاطب أوالسامع أن يفهم مَنْ منَ الرجلين قام بالزيارة، ومن الذي تلقى الزيارة لكن الإعراب يرفع هذا اللبس ويعطي القدرة على التحرك و التقديم و التأخير فنقول " زار محمد سعيدا ، أو (زار سعيدا محمد) ، فتميز علامة الإعراب (الضمة) ، أو ما ينوب عنها في حالات خاصة ( كالتثنية و الجمع … ) تميز الفاعل وتميز (الفتحة) ، أوما ينوب عنها المفعول مع أن تغيير مواقع الكلمات في العربية يتم بموجب قواعد خاصة مثل : تقديم المفعول على الفاعل أو الفعل و الفاعل.
فالإعراب إذن بغض النظر عن حده ومفهومه الاصطلاحي إذا كان لفظيا أو معنويا هو وسيلة لتحديد الوظائف النحوية التي عليها يتوقف الفهم والتواصل.
إننا نعرب لنبين المعنى الوظيفي برفع أو نصب أوجر، ونشير إلى ذلك بعلامة صوتية هي الحركة الإعرابية، التي ترتبط بذلك المعنى النحوي، وتدل عليه فكما أن معاني الألفاظ (المعجمية) قائمة في الذهن يدل عليها بألفاظ صوتية، وكذلك معاني النحو يدل عليها بعلامات صوتية هي علامات الإعراب وذلك حتما شأن المتكلم أولا ، فالمعنى القائم في ذهن من قال : (زار سعيدا محمد) يدل عليه، ويجعل (سعيد) منصوبا ويجعل (محمد) مرفوعا وإن قدم وآخر. وإذا كانت الوظائف النحوية كثيرة ومتنوعة كما هو معروف في أبواب النحو، وعلامات الإعراب لا تعدو أن تكون ( الفتحة والضمة والكسرة) بالإضافة إلى السكون، فقد أدى ذلك إلى استعمال علامة واحدة لأكثر من حالة إعرابية، وإلى حصر الحالات الإعرابية في الفاعلية وعلامتها الرفع والمفعولة وعلامتها النصب، والإضافة وعلامتها الجر، ثم حمل الحالات الأخرى على هذه الحالات الثلاث، وحمل المبتدأ على الفاعل على أساس أن الرفع علامة الإسناد، ثم حمل الخبر على المبتدأ، وحملت كل المفاعيل بالإضافة إلى الحال والتمييز والمستثنى على المفعول به، وحمل المجرور بالحرف على المضاف إليه ، بل إن هناك من جعل الحالات اثنتين الرفع علامة الإسناد والجر علامة الإضافة .
أما النصب أو الفتح فهو علامة تميزه عن الرفع أو هو علامة ما لا علامة له أي أن العرب عندما لا يكون للاسم ( وهو الأصل في الإعراب والفعل المضارع يقاس عليه) علامة إسناد، ولا علامة إضافة فإنه يحرك بالفتح، لأن الفتحة أخف من غيرها؛ كما أن السكون علامة سلبية في اللهجات العامية، أو عندما يخشى اللحن فيلجأ إلى التسكين ( فإذا خشيت اللحن فسكن) و(السكون عكاز الأعمى) ، وقد يدرج حسب هذا الرأي ما يسمى بالنصب لنزع الخافض أي عندما سقط الجار فسقطت حركته ، وصار الاسم دون حركة حُرك بالفتحة على أساس أنها علامة عدم الحركة وإن كان- في المعنى المنطقي - عدم الحركة هو السكون .
إن تمييز المعاني النحوية لا يتوقف على الإعراب الذي تدل عليه علامات محدودة بصورة مطلقة ، ولكن مع هذا فالإعراب نظام من أنظمة متعددة ضمن النظام العام للغة ، يجعلها قادرة على تأدية وظائفها وأهمها الاتصال والتفاهم ، بل يكون الإعراب في كثير من الأحيان هو النظام الوحيد للفهم و البيان ؛ وذلك في مثل قولهم : (ما أحسن زيد) حيث يفرق الإعراب بعلاماته بين الخبر في حالة النفي (مَا أَحْسَنَ زَيْدٌ) ، و الاستفهام (مَا أحْسَنُ زَيْدٍ ؟) و التعجب (ما أحسنَ زيدا) دون أن يهمل طبعا عوامل السياق و النبر و التنغيم في المشاركة في بيان المعنى وعمل النظام اللغوي .
ملاحظة :
ينصح بالرجوع إلى كتاب (ظاهرة الإعراب ..) لأحمد سليمان ياقوت، وكتاب (فقه اللغة ) لعلي عبد الواحد وافي .
كما أن للغة الإنسانية خصائص مشتركة تشترك فيها الألسنة على اختلافها وتنوعها فإن لكل لسان (لغة) خاص بكل أمة خصائص تنفرد بها وتتميز عن غيرها ، وربما تنفرد اللغة بهده الخصائص أو بواحدة منها وإنما تكون فيها أظهر من غيرها من دلك ما تمتاز به العربية (اللسان العربي) من خصائص ذكرها الباحثون وفصلوا فيها في مؤلفاتهم وأبحاثهم ومن أبرزها :الاعراب , الاشتقاق , الترادف , المشترك اللفظي , التضاد .
ب . البحث
1. تعريف الاعراب
ربما كان الإعراب من أبرز خصائص العربية ، ومعنى الإعراب في اللغة : البيان و الإفصاح أما في الاصطلاح فهو : إما الحالات الإعرابية التي تبين وظيفة الكلمة داخل التركيب (الرفع و النصب و الجر و الجزم ) أو هو علامات الإعراب نفسها (الضمة و الفتحة و الكسرة و السكون) وما ينوب عنها.وسيأتي تفصيل ذلك .
2. حكاية الإعراب
وجود الإعراب في الساميات :
إن النظر في اللغات السامية يؤكد أن الإعراب كان موجودا في هذه الفصيلة اللغوية (الفصيلة السامية) إلا أنه فقد من معظمها على العصور وقد بقيت منه بقايا في بعض فروعها .
يقول المستشرق برجستراسر " إن الإعراب السامي الأصل تشترك فيه اللغة الأكادية ، وفي بعضه اللغة الحبشية ونجد أثارا منه في غيرها " فالأكادية كالعربية تستخدم علامات الإعراب .
- فالمفرد يرفع بالضمة وينصب بالفتحة ويجر بالكسرة .
- والمثنى تقع في آخره ألف ونون في حالة الرفع وفي حالتي النصب
والجر، وينتهي في البابلية بياء ونون، و في الآشورية بحركة إمالة متطورة عن الياء المفتوح ما قبلها و النون ...
- وفي العبرية بقايا إعرابية تظهر في مواضع منها المفعول به، ويبدو أن علامة النصب في العبرية القديمة كانت (الفتحة الطويلة) التي نشأت عنها هاء متطرفة تذكر في أواخر الكلمات وتشبه الألف اللينة ، ويظهر ذلك واضحا في الاسم المنصوب بنزع الخافض وفي أواخر الظروف المنصوبة مثل "Laila " بمعنى " ليل"ATTA" بمعنى (حتى) وكذلك في المصدر الذي يناظر المفعول المطلق في العربية. إلا أنه وفق القواعد العبرية تأتي بعد (الفتحة الطويلة) ميم زائدة (ما يسمونه التمييم ويقابله التنوين في العربية) ونلمح آثارا في العبرية ترشد إلى أن الضمة والكسرة كانتا علامتين إعرابيتين فيها .
وجوده في العربية :
أما العربية فيكاد بجمع العلماء على أن الإعراب ظاهرة لغوية اتسمت بها من قديم الزمان ومنذ نشأتها .
ويقول المستشرق يوهان فك : " إن العربية الفصحى قد احتفظت في ظاهرة التصرف الإعرابي بسمة من أقدم السمات اللغوية التي فقدتها جميع اللغات السامية باستثناء البابلية القديمة قبل عصر نموها وازدهارها الأدبي " .
ويقول الدكتور السامرائي: " وقد احتفظت اللغة العربية الفصيحة بظاهرة الإعراب، وهي من صفات العربية الموغلة في القدم " .
وبعض الباحثين اللغويين كانوا يخضعون البحث اللغوي منذ زمن غير قصير للنظرية القائلة بأن اللغات تمر بحالات ثلاث على التتابع :
1) حالة العزل
2) حالة الإلصاق
3) حالة الإعراب ( التصرف )
وكان من المسلم به أن كل لغة من اللغات المعروفة كانت على إحدى هذه الحالات الثلاث وفقا لمرحلة التطور التي عرفناها فيها .
ونقل ابن جني رأيا عن أبي الحسن أجاز فيه أن تكون الكلمات المبنية قد كانت قديما معربة فلما كثرت تميزت وأجاز مع ذلك أنهم ابتدأوا بناءها لأنهم علموا أنه لابد من كثرة استعمالها .
والنظرة التطورية إلى اللغة لا تقبل بحال أن نعد ظاهرة الإعراب في العربية وجدت هكذا دفعة واحدة . فالطبيعي أن لإعراب لم يصل إلى هذه الدرجة الدقيقة المنظمة في العربية إلا على مراحل ودرجات ولابد أنه كان بسيطا كما هو الحال عند أخواتها .
ولعل كثيرا من الألفاظ التي تعربها العربية الآن كانت في وقت ما مبنية ثابتة أواخرها على حركة واحدة أو على سكون؛ أقصد أن الإعراب لم يكن مطردا على أواخر الألفاظ المعربة وعلى النحو الذي نراه الآن.
ويرى بعض الباحثين المحدثين كالدكتور إبراهيم أنيس أن الإعراب كان من خصائص اللغة النموذجية ، فظاهرة الإعراب لم تكن ظاهرة سليقة في متناول العرب جميعا، كما يقول النحاة ، بل كانت صفة من صفات اللغة النموذجية الأدبية ، ولم تكن من معالم الكلام العربي في أحاديث الناس وخطابهم .ويوافقه الأستاذ عبد المجيد عابدين بعض الموافقة حين يقول : " إن العربي كان إذا عاد إلى بيئته أو بيته عاد إلى لهجته الدارجة ؛ هذه اللهجات الدارجة لم تكن في أغلب الظن معربة إعراب لغة قريش ، وكان الإعراب في هذه اللهجات بسيطا ، وهي تذكرنا على كل حال باللهجات العربية الحديثة " .
وكان الدكتور أنيس قد ادعى أن النحاة العرب قد اخترعوا قواعد الإعراب على نظام النحو في اللغات الأخرى كاليونانية مثلا ففيها يفرق بين حالات الأسماء التي تسمى "Cases" ويرمز لها في نهاية الأسماء برموز معينة ، وكأنما قد عز على النحاة ألا يكون في العربية أيضا مثل هذه الـ "Cases " فحين وافقت الحركة ما استنبطوه من أصول إعرابية قالوا عنها : أنها حركة إعراب وفي غير ذلك سموها حركة أتى بها للتخلص من التقاء الساكنين . ومن هذا يتلخص أن الدكتور أنيس ومن تابعه يدعون أن الإعراب لم يكن في لهجات التخاطب عند العرب القدماء، وأن بعضه اخترع لطرد القواعد وانسجامها .
ومن الردود على هؤلاء وخاصة الذين يرون في ظاهرة اللهجات العامية اليوم دليلا على خلوالعربية أصلا من الإعراب :
1) ما ذكره الدكتور عبد الواحد وافي حيث قال : إن اللهجات العامية الحديثة خضعت لقوانين التطور في مفرداتها وأوزانها ودلالاتها ، فبعدت بعدا كبيرا عن أصلها فلا تقوم دليلا، وقد خضعت لقانون التطور الصوتي وهو ضعف الأصوات الأخيرة في الكلمة و انقراضها ، وهو قانون عام خضعت له جميع اللغات الإنسانية في تطورها. وفي اللهجات العامية الحديثة بقايا من الإعراب مثل: ( أبوك وأخوك ) في عامية مصر. وفي معظم لهجات العراق تثبت النون في الأفعال الخمسة مثل :يمشون – تمشون – تمشين .
2) روى بعض الباحثين أن آثار الإعراب بالحركات لا تزال باقية في لهجات بعض القبائل الحجازية في العصر الحاضر، ويستفاد ذلك من كثير من كتب التاريخ ، ففي كتب أبي الفدا أن العربية بقيت في بعض لهجات المحادثة حتى أواخر العصور الوسطى. نضيف إلى هذا أن الزبيدي في تاج العروس (مادة عكد) ذكر أن قرية قرب جبل عكادا كانت لا تزال فصيحة حتى عصره، وقد توفى الزبيدي سنة 1305 هـ.
3) صعوبة قواعد الإعراب لا تدل على اختراعها ، فاليونانية و اللاتينية مع صعوبة الإعراب فيهما كالعربية لا تزال تستعمل حتى الآن في المحادثة وخلق القواعد خلقا لا يتصوره العقل، إذ اللغة هي التي تفرض نفسها ، ولم يكن هناك صلة بين علماء النحو العربي و الإغريق حتى يقتبسوا منهم لأنهم لم يكونوا يعرفون اليونانية مع أن قواعد العربية تختلف اختلافا جوهريا عن اللغة اليونانية .
4) كان علماء البصرة والكوفة يأخذون في وضع القواعد من لغة المحادثة عند القبائل العربية متحرين الدقة في ذلك، وليس من المعقول أن يتواطأ جميع العلماء مع علماء النحو مع هذا الاختلاف و الاختراع
5) اكتشفت نقوش في شمال الحجاز تدل دلالة قاطعة على وجود الإعراب في العربية البائدة نفسها .
6) أوزان الشعر العربي تقوم على الموسيقى ولابد لها من الإعراب .
7) تواتر القرآن و السنة بالإعراب دليل قاطع على وصول الكلمات إلينا معربة، وكذلك رسم المصحف العثماني مع تجرده من الإعجام والشكل وذلك أن المصحف يرمز إلى كثير من علامات الإعراب بالحروف (المؤمنون، رسولا ، شهيدا....)
ولاشك أن المصحف العثماني قد دون في عصر سابق بأمد غير قصير لعهد علماء البصرة و الكوفة .
وقد أثبت المستشرق " يوهان فك " :" أن الإعراب من سمات العربية القديمة. فأشعار البادية من قبل العهد الإسلامي، ومن بعده ترينا علامة الإعراب مطردة كاملة السلطان . كما أن الحقيقة الثابتة أن النحويين اللغويين الإسلاميين كانوا حتى القرن الرابع الهجري و العاشر الميلادي على الأقل يختلفون إلى عرب البادية لدرس لغتهم تدل على أن التصرف الإعرابي كان بالغا أشده لذلك العهد، بل لا تزال حتى اليوم نجد في بعض البقايا الجامدة من لهجات العرب البداة ظواهر الإعراب، كما يستدل أيضا بالقرآن الكريم وإعرابه إذ أنه أقدم أثر من أثار النثر الأدبي ".
ودقة الإعراب وتنوعه ليست مانعا من التخاطب بلغة معربة، ولهذا نظائر في تاريخ اللغات الأوروبية كالألمانية التي لا تزال لغة تخاطب بين الألمان .
3. دخول الإعراب الكلام
كما هو معروف عند علماء اللغة إن اللغة العربية من خصائصها أنها معربة فهي تعتمد بالدرجة الأولى على الإعراب الذي يحدد الوظائف النحوية للمفردات ضمن التركيب .ومعنى الإعراب –أصلا– هو الإظهار والتوضيح فلو قال قائل: ( زار محمد سعيد ) بتسكين آخر الاسمين لا يستطيع المخاطب أوالسامع أن يفهم مَنْ منَ الرجلين قام بالزيارة، ومن الذي تلقى الزيارة لكن الإعراب يرفع هذا اللبس ويعطي القدرة على التحرك و التقديم و التأخير فنقول " زار محمد سعيدا ، أو (زار سعيدا محمد) ، فتميز علامة الإعراب (الضمة) ، أو ما ينوب عنها في حالات خاصة ( كالتثنية و الجمع … ) تميز الفاعل وتميز (الفتحة) ، أوما ينوب عنها المفعول مع أن تغيير مواقع الكلمات في العربية يتم بموجب قواعد خاصة مثل : تقديم المفعول على الفاعل أو الفعل و الفاعل.
فالإعراب إذن بغض النظر عن حده ومفهومه الاصطلاحي إذا كان لفظيا أو معنويا هو وسيلة لتحديد الوظائف النحوية التي عليها يتوقف الفهم والتواصل.
إننا نعرب لنبين المعنى الوظيفي برفع أو نصب أوجر، ونشير إلى ذلك بعلامة صوتية هي الحركة الإعرابية، التي ترتبط بذلك المعنى النحوي، وتدل عليه فكما أن معاني الألفاظ (المعجمية) قائمة في الذهن يدل عليها بألفاظ صوتية، وكذلك معاني النحو يدل عليها بعلامات صوتية هي علامات الإعراب وذلك حتما شأن المتكلم أولا ، فالمعنى القائم في ذهن من قال : (زار سعيدا محمد) يدل عليه، ويجعل (سعيد) منصوبا ويجعل (محمد) مرفوعا وإن قدم وآخر. وإذا كانت الوظائف النحوية كثيرة ومتنوعة كما هو معروف في أبواب النحو، وعلامات الإعراب لا تعدو أن تكون ( الفتحة والضمة والكسرة) بالإضافة إلى السكون، فقد أدى ذلك إلى استعمال علامة واحدة لأكثر من حالة إعرابية، وإلى حصر الحالات الإعرابية في الفاعلية وعلامتها الرفع والمفعولة وعلامتها النصب، والإضافة وعلامتها الجر، ثم حمل الحالات الأخرى على هذه الحالات الثلاث، وحمل المبتدأ على الفاعل على أساس أن الرفع علامة الإسناد، ثم حمل الخبر على المبتدأ، وحملت كل المفاعيل بالإضافة إلى الحال والتمييز والمستثنى على المفعول به، وحمل المجرور بالحرف على المضاف إليه ، بل إن هناك من جعل الحالات اثنتين الرفع علامة الإسناد والجر علامة الإضافة .
أما النصب أو الفتح فهو علامة تميزه عن الرفع أو هو علامة ما لا علامة له أي أن العرب عندما لا يكون للاسم ( وهو الأصل في الإعراب والفعل المضارع يقاس عليه) علامة إسناد، ولا علامة إضافة فإنه يحرك بالفتح، لأن الفتحة أخف من غيرها؛ كما أن السكون علامة سلبية في اللهجات العامية، أو عندما يخشى اللحن فيلجأ إلى التسكين ( فإذا خشيت اللحن فسكن) و(السكون عكاز الأعمى) ، وقد يدرج حسب هذا الرأي ما يسمى بالنصب لنزع الخافض أي عندما سقط الجار فسقطت حركته ، وصار الاسم دون حركة حُرك بالفتحة على أساس أنها علامة عدم الحركة وإن كان- في المعنى المنطقي - عدم الحركة هو السكون .
إن تمييز المعاني النحوية لا يتوقف على الإعراب الذي تدل عليه علامات محدودة بصورة مطلقة ، ولكن مع هذا فالإعراب نظام من أنظمة متعددة ضمن النظام العام للغة ، يجعلها قادرة على تأدية وظائفها وأهمها الاتصال والتفاهم ، بل يكون الإعراب في كثير من الأحيان هو النظام الوحيد للفهم و البيان ؛ وذلك في مثل قولهم : (ما أحسن زيد) حيث يفرق الإعراب بعلاماته بين الخبر في حالة النفي (مَا أَحْسَنَ زَيْدٌ) ، و الاستفهام (مَا أحْسَنُ زَيْدٍ ؟) و التعجب (ما أحسنَ زيدا) دون أن يهمل طبعا عوامل السياق و النبر و التنغيم في المشاركة في بيان المعنى وعمل النظام اللغوي .
ملاحظة :
ينصح بالرجوع إلى كتاب (ظاهرة الإعراب ..) لأحمد سليمان ياقوت، وكتاب (فقه اللغة ) لعلي عبد الواحد وافي .
0 komentar:
Posting Komentar